«فاينانشيال تايمز»: هل يمكن لاقتصاد ألمانيا إنقاذ أوروبا من آثار «كورونا»؟
عندما انتشرت جائحة فيروس «كورونا»، قررت شركة «باير جروب» المتخصصة فى صناعة الضواغط، ومقرها ميونيخ، تمزيق خطة عملها وكتابة خطة جديدة.
ففى ظل انخفاض عملائها الكبار فى صناعة السيارات، تحولت «باير جروب» إلى العملاء الآخرين الأكثر مقاومة للأزمات فى معاهد البحوث وقطاع الرعاية الصحية، لتقدم لهم تطبيقات جديدة لنظام استرجاع الهيليوم المتطور، كما أنها طورت ضواغط جديدة لتوليد الغاز الحيوى لعملائها فى مجال الطاقة، وقدمت مرشحا جديدا يزيل الفيروسات والبكتيريا والعفن من أجهزة تنفس الهواء.
ونتيجة لذلك، أعلنت «باير» إمكانية تلبيتها أهداف 2020 للإيرادات والطلبيات المحددة قبل تفشى الفيروس، وكلاهما أفضل من نتائج عام 2019.
وقال فيليب بيات، الرئيس التنفيذى لشركة «باير جروب»: «نرى أن بعض أسواقنا تتعافى بالفعل، ولن أقول أننا نشعر بالبهجة، لكننا بالتأكيد واثقون من المستقبل».
وتماما مثل معظم جيرانها، دُمرت ألمانيا بسبب الطوارئ الصحية العالمية، فهى تواجه أسوأ ركود فى تاريخها بعد الحرب، مع ارتفاع معدلات البطالة وانهيار الصادرات ونواتج التصنيع، كما أن الحالة المزاجية السائدة بين قادة الصناعة فى ألمانيا قاتمة.
ومع ذلك، تُظهر تجربة «باير جروب» أنه لا يزال بإمكانها فى النهاية التعافى من التباطؤ بشكل أسرع بكثير من معظم جيرانها.
وفى الوقت الذى يتوقع فيه البنك المركزى الألمانى انكماش الناتج المحلى الإجمالى للبلاد بنسبة %6 هذا العام، كانت التوقعات الخاصة بالاقتصادات الأوروبية الأربعة الأخرى- التى نشرتها البنوك المركزية مؤخرا- أسوأ بكثير، فمن المتوقع انكماش اقتصاد إيطاليا، على سبيل المثال، بنسبة %9.2 والمملكة المتحدة بنسبة %14.
وفى بداية يونيو الجارى، قال بيتر ألتماير، وزير الاقتصاد الألمانى: «نرى اتجاها إيجابيا واضحا فى الحالة المزاجية للأفراد».
وأضاف أن الشركات الألمانية كانت تخطط لاستثمارات كبيرة فى نهاية عام 2020، كما أن التحفيز المالى للحكومة البالغ قيمته 130 مليار يورو سيدخل حيز التنفيذ فى الأسابيع المقبلة، مما يعزز نشاط الأعمال التجارية.
ويعتقد ألتماير أن ألمانيا ستكون قاطرة اقتصادية بإمكانها إخراج أوروبا والعالم من أزمة «كورونا».
وذكرت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية أن أكبر اقتصاد فى أوروبا يتمتع بثقة فى قدرته على الانتعاش، ويرجع هذا الأمر إلى حد كبير فى قدرته على التعامل مع الوباء.
وسجلت ألمانيا حالات وفاة بفيروس كوفيد-19 أقل بكثير من الدول الكبرى الأخرى، حيث وصلت الوفيات إلى 8914 شخصا، أى خُمس حالات وفاة بريطانيا تقريبا، كما أنها استطاعت تسطيح منحنى الإصابات الجديدة بشكل أسرع من جيرانها، وكل ذلك دون فرض أى قيود صارمة كتلك المسجلة فى دول مثل فرنسا، التى لم يُسمح فيها للأشخاص بمغادرة منازلهم لأسابيع.
ولعبت الاستجابة المالية للحكومة الألمانية أيضا دورا كبيرا، فقد كشفت برلين النقاب عن حزمة تحفيز نقدى لتخفيف آثار الأزمة، ففى المرحلة الأولى أطلقت برلين حزمة بقيمة 1.3 مليار يورو لتشكل درعا وقائيا بالنسبة لمعظم الشركات الألمانية، مما منع موجة من حالات الإفلاس والتسريح الجماعى للعمالة كتلك التى شهدتها دول مثل الولايات المتحدة، ثم كان هناك حزمة تحفيز أخرى لتسريع التعافى الاقتصادى بعد التأثر بالوباء.
وأشارت الصحيفة إلى أن المرونة وسرعة استجابة الشركات الألمانية الصغيرة والمتوسطة للوباء أثبتت أنها جزء هام من نجاح البلاد، فعلى سبيل المثال شركة «va-Q-Tec»، ومقرها فورتسبورغ، التى حولت صناعتها لتصنيع الحاويات المعزولة المستخدمة لنقل المنتجات الصيدلانية والتى تعتبر مطلوبة الآن بشدة لحمل مجموعات اختبار الفيروس، فقد ساهم هذا التغيير فى استمرار عمل الشركة حتى فى ذروة الوباء.
وقال جواكهيم خان، مؤسس «va-Q-tec»: «لم يكن علينا القيام بأى إغلاق، بل طلبنا من كافة عملائنا إرسال رسائل تأكيد مفادها أنهم مهتمون بشكل منهجى بالرعاية الصحية، مما ساعدنا فى الاستمرار فى العمل حول العالم».
وتجدر الإشارة إلى أن «باير جروب» قامت بالأمر نفسه، بحجة أن أجهزة تنقية الهواء الخاصة بها كانت حاسمة بالنسبة للمستشفيات والعيادات.
وفى الواقع، وبعيدا عن صناعة السيارات، لم تشهد ألمانيا نفس مستوى الاضطرابات الذى شهدته أماكن أخرى، مثل إيطاليا التى أجبرت كافة الشركات غير الأساسية على الإغلاق.
وقال كليمنس فويست، رئيس معهد «إيفو» الألمانى للبحوث الاقتصادية: «لم يكن إغلاق ألمانيا عميقا أو طويلا كما هو الحال فى دول أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا».
وفى الوقت نفسه، قال ينس أولبريش، كبير الاقتصاديين فى البنك المركزى الألمانى، إن الاقتصاد الألمانى يتسم ببعض السمات البارزة مثل مرونة الاستثمار حتى الآن، مما يعكس كيفية استمرار نشاط البناء، وخاصة الإسكان.
وعندما يتعلق الأمر بالشركات الألمانية الصغيرة والمتوسطة، فقد تمكن الكثيرون من تجاوز العاصفة بفضل شبكة العلاقات التجارية العالمية التى أقاموها على مدى العقود القليلة الماضية، فعلى سبيل المثال تعمل شركة «HAWE Hydraulik» الهندسية فى ميونيخ على تصنيع المكونات والأنظمة الهيدروليكية ثم تصدير منتجاتها إلى الصين والولايات المتحدة وبقية أوروبا، التى عانت جميعها من تفشى الوباء ولكن فى أوقات مختلفة، مما ساهم فى تخفيف حدة الضربة.
وأوضحت «فاينانشيال تايمز» أن ألمانيا تتسم بميزة هامة وهى استمرار احتياج العالم إلى منتجاتها.
وفى هذا الصدد، قال لارس فيلد، رئيس مجلس الخبراء الاقتصاديين الألمانى، إن الأمر لا يبدو كما لو أن أسواق السلع الألمانية فى الداخل والخارج قد دفنت حية بسبب تلك الأزمة الهائلة، بل إنهم ظلوا على حالهم، كما أن الطلب على السيارات والآلات الألمانية لم يختفى.
انتعاش مختلف
تعتبر التوقعات المستقبلية أقل كآبة مما كانت عليه قبل شهر، لكن آفاق الاقتصاد الألمانى ليست مشجعة للغاية على المدى الطويل.
ويعتقد بعض الاقتصاديين أن اعتماد البلاد الكبير على الصادرات يخفى فخا محتملا، حيث يمكن لعالم ما بعد الفيروس إثبات عدائيته تجاه الاقتصادات المنفتحة، مثل ألمانيا، التى تعتمد على التجارة الحرة وسلاسل الإمداد الدولية والمؤسسات المتعددة الأطراف، وسط ردة فعل متصاعدة ضد العولمة.
وأشار جابرييل فيلبرماير، رئيس معهد كيل للاقتصاد العالمى، إلى أن الفضل فى نمو الاقتصاد الألمانى بين عامى 2010 و2019 يرجع بشكل كبير إلى التجارة الخارجية، لكن ذلك الأمر لن يرى فى الأعوام المقبلة، خاصة أن الدول بدأت فى فرض قيود تجارية وتشجيع التوطين من خلال دعم الشركات الراغبة فى الانتقال إلى سوقها المحلية، واشتعل الخلاف بين الصين والولايات المتحدة، وكل تلك الأمور تؤذى ألمانيا حقا.
وهناك مخاطر أخرى تلوح فى الأفق أيضا، حيث يمكن أن تؤدى التغيرات السريعة التى ستحتم اللجوء إلى الرقمنة، إلى إلحاق الضرر بالأعمال التجارية والمجتمع الألمانى، كما أن السياسات الخضراء للتخفيف من التغييرات المناخية ستؤثر على قطاع السيارات، الذى يعتبر ركيزة أساسية بالنسبة لقوة ألمانيا.